أفواه جائعة/بقلمي

تكدسوا أمام الباب الخارجي للمدرسة،بأجسادهم الصغيرة النحيفة،ثيابهم رثة،وجوههم توحي أنها لم تر الماء هذا الصباح.
ما إن سمعوا صوت محرك السيارة،حتى اهتزت أجساهم هزا.نزل المدرس يحمل محفظته،يمشي بخطا تنم عن الحكمة و الوقار.
فتح الباب،تبعه التلاميذ كأنهم قطيع ماشية.
في حجرة حديثة البناء،أخذ كل واحد منهم مكانه فوق المنضدات الخشبية.
وضع الأستاذ أمتعته على مكتبه،اتجه نحو السبورة ,بيده طبشورة بيضاء،مسح في خفة ما تبقى من كتابة الأمس،و خط في الأعلى تاريخ اليوم،وأعين الصغار تترقبه باهتمام واضح.
أدار وجهه،وضع يده اليمنى فوق اليسرى،ثم شرع في إلقاء الدرس.
سألهم بجدية:"ما هي الديموقراطية؟" نظر في أعينهم المدورة الناعسة،و كأن سؤاله أيقظهم من سبات عميق.خيم صمت رهيب داخل الفصل،إلى أن كسره صوت يقول:"هي الخبز يا أستاذ"
اتفق التلاميذ فيما بينهم أن الديموقراطية هي الخبز،فحلت ضجة عارمة،لم تقدردقات عصا المعلم أن تسكتها.
و فجأة،انبعث شيء يشبه نقيق الضفادع من الركن الأخير من الصف،هناك طفل يتقيأ،تحول المدرس من دوره كمربي إلى طبيب،صوب نحوه بصره،سأله،"ما بك؟"اتجه إليه وضع يده على جبهته:"حرارتك مرتفعة"،و هنا صاح أحدهم:"إنه به مرض (الحلوف)"،فارتفعت الأصوات"أجل إنه مرض الخنازير" "أنفلوانزا الخنازير،هكذا يسمونه في التلفاز".
طلب الأستاذ من الحارس أن ينظف المكان،و أمر الطفل أن يلتحق ببيته،لأن حالته الصحية تستوجب الخلود للراحة،توسل إليه كي يتركه إلى حين انتهاء الحصة،ألح و أكثر من الإلحاح،إلا أن إلحاحه قوبل بالرفض.
خرج،يمشي متثاقلا كالثمل،جلس في ساحة المدرسة،متكئا على صورها،و محفظته تعانق ظهره.
أخذ ينظرإلى البناية المتواجدة أمامه،وكأنه يستعطفها لتفتح بابها،مر عليه الوقت ثقيلا،و عيناه لم تتحول عنها،إلى أن دق جرس المدرسة،جاء لينقذه من ملله،وقف ليتجه نحو الباب الذي فتحه الحارس بمشقة،خرج التلاميذ من أقسامهم،أسرعوا نحو المطعم المدرسي،كان هو قد سبقهم،تدافعوا بينهم كالوحوش المفترسة،رغم علة جسمه،استطاع أن يتسلل من بينهم و يظفر بكسرة خبز على شكل مثلث متساوي الساقين،و بها قطعة جبنة،ثم قصد طريقه إلى البيت منتصرا بغنيمته.
عند وصوله،وجد أخاه الصغير يلعب مع كلبه،توقف،قسم قطعة الخبز إلى شطرين،أعطى للأخ شطرا و احتفظ هو بالآخر،تناولها الصغير في سرور و بدأ يأكلها في نهم شديد،و الكلب يترنح حوله،وقد سالت لعابه و تدلى لسانه.
دخل،لم يكن أحد في البيت،كعادتها،خرجت الأم لتبحث عن عمل في المزارع المجاورة،عسى الله أن يوفقها هذا اليوم،و ترجع بما تستطيع أن تسد به رمق أطفالها.
أما الأب،فلا أحد يعرف شيئا عنه،انقطعت أخباره منذ أن هاجر ذات صباح،كان يغيب مرارا ثم يعود،لكن غيبته هذه المرة طالت،رويت حكاية عن أنه بليبيا،ينتظر مع الآخرين دوره للتسلل إلى إيطاليا.
وجد جدته تجلس القرفصاء في فناء الدار فوق حصيرة،و في يدها سبحة،و فمها الفارغ من الأسنان لا يكف عن التمتمة.
أحس بدوار،استلقى بالقرب من جدته،وضع رأسه الصغيرة على المخدة،و تحتها خبأ قطعة خبزه،استسلم لنوم عميق،لو رأيته لأقسمت أنه مغمى عليه،لم يوقظه غير حركات خفيفة تحت رأسه،شخص ما يفتش عن شيء تحت مخدته،فتح عينيه،نهض،نظر إلى الأعلى،أصيب بالذعر لما رأى الكلب يقظم خبزه،وقف يصرخ"أيها السارق.....ماذا فعلت؟" هرب الكلب و الخبز لا تفارق فمه،جرى وراءه "أعدها لي...إنها لي.." انحنى التقط بعض الحجارة،رماه بها "أيها الكلب....أيها الخائن.....سأقتلك..."
لم يفقد الأمل في استرجاع تلك القطعة إلى أن توارى عن أنظاره.
رجع خائبا،سمع صوتا كخرير المياه....أيقن أن هذا الصوت قادم من داخل أحشائه،إنها أمعاءه تتقطع جوعا،أصيب بحرقة في حلقه،سقط على الحصيرة،غرس أنفه في المخدة،و أجهش في البكاء.
بقلم نوميديا

شكرا خويا فيصل،بارك الله فيك